جبروت الحاكم وبراءة الصبي
September 19, 2023
دروس من محاكمة الرئيس دونالد ترامب
November 3, 2023

عائلات الريع في المنطقة العربية

لم ينجح المجتمع العربي في تحقيق الانتقال المنشود إلى مجتمع مدني حيث تسود سلطة المؤسسات ويعلو القانون، بل ظلّ أسير قيود مجتمع قبلي متخلف عن ركب المجتمعات المتقدمة، قائم على الحكم الفردي والغنيمة والجباية والتعلّق التلقائي بإرث الأجداد. دون شك، تقف البنيات الاجتماعية التقليدية لمجتمع كهذا عائقاً أمام محاولات النهوض والإقلاع، ولم
.تستقل تصوّراتها عن النظام القبلي المستقر في البنيات الذهنية والنفسية، ولم تتجاوز بنيته الهرمية الخاضعة لسلطة الشخص الواحد

أفرزت بنيات المجتمع العربي حفنة من العائلات التي تدّعي الوجاهة والأصالة والمجد، وتزعم أنها جزء لا يتجزأ من الرأسمال الرمزي للبلد، والأدهى من ذلك أنها ترى أنّ استمرار البلد يكمن في استمرارية حضورها، وتحت غطاء هذا القول، تستأثر بخيرات البلاد وتنتفع من جميع ينابيع الثروة الوطنية الهزيلة أصلاً، والنابعة عن بنية اقتصادية هشّة لا تكرّس إلا الاحتكار وتعيق التعدّد والتنوّع والحركية. مما لا شك فيه أنّ توغلها يعيق محاولات الخوض في التجربة الديمقراطية، ويئد فكرة بناء دولة المؤسسات في المهد ما دام القانون لا يعلو على نفوذها ويصهر بالتحايل من أجل قضاء مآربها وإسقاط أيّ منافس محتمل. حتماً، لا يمكن تصنيفها بالبرجوازية، إذ تفتقد أدبيات نمط عيش البرجوازية الأصلية، والتي هي وليدة
.تجربة حداثية في بقاع أخرى من العالم

في المنطقة الأوروبية، مهد التجارب الحداثية في العالم الغربي، توجد عائلات عريقة تملك الرأسمال وأدوات الإنتاج وتنشط بفعالية وتُراكم الثروات، لكن عراقتها تأسّست على نضال أناس أسّسوا لبورجوازية طموحة، كانت من أهم الفاعلين في الثورة الصناعية من خلال تقديم قوة الدفع عبر قاطرة الرأسمال والأفكار، وساهموا في اكتساب وتطوير الدرابة الحرفية والصناعية واكتساح الأسواق وصقل وإبداع مهارات التسويق والتواصل. ورغم المؤاخذات التي تعتري تاريخ تطورها، أنعشت البورجوازية الأوروبية، وبقوة، قيم الكد والعمل
.والمثابرة والتطلّع والإنتاج المتواصل

على النقيض من ذلك، تقوم قوّة بعض العائلات المؤثرة في المنطقة العربية على الريع والتقرّب من الحاكم وزواج السلطة بالمال والاحتكار بجميع أنواعه. لا تدخر جهداً في إقبار بذور
.انبعاث فاعلين جدد، وتحول دون انتقال البلد إلى دولة قانون وحريات وصون حقوق الإنسان، ما دام هذا التوّجه يصيب مصالحها في مقتل

لذلك، من الطبيعي أن يكون همها الوحيد هو الاستماتة في الحفاظ على الوضع القائم وتكديس الثروات وإبقاء معادلة الحكم القائمة وعدم المسّ بأطرافها، من خلال إضفاء القدسية على بعض الممارسات، والعمل على استعارة المشروعية بجميع الوسائل من الداخل والخارج على حد سواء، كما ادّعاء الخوض في تجارب ديمقراطية ليست إلا صورية وشكلية، دون أن ننسى تذويب جميع التصوّرات العصرية من أنساق التدبير لمواءمة مصالحها الخاصة، وتعطيل المساءلة والمحاسبة، وتقديم الحكومات للواجهة كمسؤول حقيقي عن الفشل وتجريدها من جميع الصلاحيات، واحتواء كلّ محاولات التمرّد بالإغراء أو العقاب، وتعطيل الاستثمار في الموارد البشرية، والحيلولة دون قيام طبقة وسطى قوية تشكل تهديدا لاحتكارها، ومحاربة كلّ محاولات التحديث. غير أنّ الأخطر عمقاً وأبلغ أثراً هو ما ترسله وتنشطه من قيم تعيق كلّ صحوة أو نهضة، فما بالك بالتجديد؟ نتحدث، على سبيل المثال لا الحصر، عن
.التواكل والكسل والأنانية والجشع والنرجسية والسطو والفهلوة

غني عن البيان القول إنّ وجاهة العائلة تستقر في نوعية ما تفرزه من قيم وما يتركه الأفراد من أثر في خدمة الصالح العام، أكان ذلك علماً أو اجتهاداً أو درابة صناعية أو قيمة إنتاجية، أو وقفاً خيرياً أو مشاركة فعالة في النضال من أجل استقلال البلد زمن الاستعمار المباشر.. هي بدون شك عائلة وجدت الوجاهة في العطاء وخدمة الوطن واستبرأت من معرّة الأخذ والعيش على كدّ الآخرين، ولنا في الوطن العربي أمثلة مشرفة ومشرقة يزداد لمعان حضورها مع تعاقب أجيالها. حقيقة، وجاهة العائلة لا تنبعث من الاعتداد بالنفس أو النرجسية، بل
.يهديها الآخر كاعتراف ووسام تقدير وامتنان لمن وهب نفسه وماله للوطن

من جهة أخرى، ثمة نقاط مضيئة في المنطقة العربية من سراج محاولات جدية وجريئة لتجديد البنيات الاجتماعية في بعض الدول، نعتز بها ونتابعها ونفتخر بتجربتها ونرجو لها
.النجاح ما دامت عدوى حسناته ستنتقل حتما إلى البلدان المجاورة

تم نشر المقالة على رأي اليوم 04 مايو 2023 أنقر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *