من يخطف عيدنا الذي نحبه؟
August 20, 2023
عائلات الريع في المنطقة العربية
October 30, 2023

جبروت الحاكم وبراءة الصبي

استيقظ الحاكم على غير عادته، بوجه متهجم يسوده القلق والاضطراب، وعلامات الإعياء والأرق بادية للعيان. الأمر مخالف تماما للمظهر الاعتيادي للحاكم الذي غالبا ما يبدأ يومه بوجه صبوح ومشرق مقبل على الحياة ومتلهف على الانغماس في كل لحظة منها. عندما توجه إلى مكتبه، وجد أحد مستشاريه في الانتظار، وهو الشخص الذي ورثه عن فترة حكم أبيه
:وعض عليه بالنواجذ لما يكتنزه الرجل من تجربة وحكمة وبصيرة. بعد تبادل التحية، أبدى المستشار ملاحظته حول المظهر الغير مألوف للحاكم وهم بتقديم ملاحظته

!أراكم على غير مظهركم المعتاد سيدي، يبدو أن آثار القلق والإجهاد اختطفت من وجهكم النير بشاشة الصباح وعلامات الارتياح –
هو كذلك، وكيف لمثلي أن ينعم بالراحة والطمأنينة؟

هل لي سيدي أن أستفسر عما يؤرق راحتكم وينغص سكينة دواخلكم؟

.هو أمر بسيط وغريب للغاية، لكنه في تفاصيله عميق وبليغ

.أظنني أستطيع استيعاب الأمر، سيدي

البارحة، خلال زيارتي لأحد الأقارب في إحدى القرى النائية، حيث قضيت عطلتي الأسبوعية و ارتأيت الابتعاد عن الضغط وأمور إدارة الدولة، وجدت عند عتبة المنزل بعض الصبية يلعبون، أبدوا الحياء والأدب، وأثار انتباهي أحدهم بنظراته الثاقبة. حين التقت عيناي بعيني الصبي، كان له السلطان والجبروت. كانت نظرات قوية مغايرة عما اعتدته من نظرات الخوف أو التملق أو الاستعطاف، كانت نظرات متجردة من كل الإعتبارات أو المصالح. اقتربت منهم و بادرتهم بالتحية والدعابة وبعض المزاح، ثم تحدثت مع الصبي للحظات ترسخت في ذاكرتي وكأنها عقود من الزمن. لم يقل الصبي شيئا إذ اكتفى بابتسامة خفيفة لكنها قوية بصدقها و تلقائيتها. سألته بلطف وسلاسة عما يدفعه للتمعن في النظر إلي. فأجابني بأنني أذكره بأبيه لأننا نتقاسم بعض الملامح من الوجه، فأضاف أن أباه يعيش في بلد آخر بسبب العمل. اكتفى بكلمات معدودات وبدل البوح بأي كلام إضافي، تحدثت الأعين وقالت كل شيء، عبرت عما يكتنزه جوف هذا الصبي من خفايا وربما دواخل العديد من الصبية من عمره. صدقني لو قلت لك أنه لم يغمض لي جفن، سلسلة من البراكين استقرت في العقل والوجدان لا قبل لي بالتعايش معها. كنت أحسبني متربعا على عرش ملكوت المجد وقمة النجاح ولب السكينة والطمأنينة، لكن ذلك اللقاء العفوي القصير مع صدق البراءة أجهز على كل هذه الأوهام. حرم الصبي من جوار أبيه الذي لم يستطع كسب عيشه الكريم في بلد أتحمل مسؤولية إدارته وصون كرامته. عاد بي الصبي إلى الوراء و أجبرني على مساءلة ما قدمت للبلد خلال مدة ولايتي. ماذا قدمت للناس وماذا أعددت للأجيال القادمة. هل احتضنت طموحاتهم جميعا وهل فتحت باب الأمل أمامهم ؟ لا يمكن التذرع بأية حجة لتبرير عجزي وتقصيري في
.خدمتهم. بدا الحاكم مرتبكا في رواية ما حدث، فالكلمات التي اختارها بدقة للتعبير عما استوطن وجدانه من عواطف ومخاوف لم تعد تفي بالغرض

.خيم الصمت للحظات ولم يقاطع المستشار الحاكم بل تركه يسترسل في حديثه وكأنه بصدد نسج خواطر شخصية صرفة

أوحى لي الطفل بفشل منظومة تواصلي مع الناس وعن الوصاية التي فرضتها دون إدراك مسبق. ظننتني قريبا من الجميع، فإذا بي بعيدا عنهم بعد المغرب عن المشرق. ما تفاهة وهم المقام الذي أعتليته وما أسمى وأرقى مقام الصبي! نظراته الثاقبة ضمنيا قالت : نحن بسطاء لكننا تفوقنا في المرور إلى مقام الإنسان ونحس به ونعرفه جيدا، ماذا عنك؟ ألست بشرا غير قادر على العبور إلى ضفة الإنسانية وقيمها النبيلة؟ ألست تحت سيطرة غرائزك البدائية؟ كيف لك أن تحس بمعاناة الآخرين والانفتاح على همومهم وقلقهم؟ جعلني ذاك الطفل
.أراجع معنى النجاح والتفوق والتميز

توقف الحاكم عن الكلام وأدرك المستشار أن دوره في إبداء الرأي قد حان ولم يتردد. كان المستشار يبدو أكثر وقارا ورزانة، منتوج خالص لسنوات من التجربة ومكابدة الصعاب ومكر
:الحكم وكيد الكائدين. قال

أميل إلى الاعتقاد سيدي أن النظرات كانت لينة ودافئة مترفعة عن كل اعتبار، لكن يقظة ضميرك وقوة الورع الذي يستوطنك وقلقك الدائم هي عناصر شكلت قراءتك لمحتوى اللقاء وأخرجت ما في دواخلك من طموحات ومخاوف. الحق ثم الحق أقول، و لم تعهد في قولي الإطراء والمديح، ما دمت قد قمت بتأويل ذاك اللقاء على هذا النحو، فأنت الأحق بالتدبير، وشخصكم كله إنسانية ونبل، ومادمت التقطت رسائل الصبي بنقد ومحاسبة للذات، فلدي اليقين على أنك الأجدر بخدمة أقرانه ما وجدت رسائله الأذن الصاغية والإرادة الصادقة
.للاستجابة لها. بكل تأكيد هناك تقصير غير مقصود وفوق طاقتك لا تلام، لكنه دافع نحو الاجتهاد والبذل

.لن أستطيع إلى ذلك سبيلا. اليد الواحدة لا تصفق

بكل تأكيد سيدي، لكن اليد الواحدة هي من تبحث عن الأيادي الأمينة، تبادر وتقود وتشارك الرأي وتهم ببناء المؤسسات ونظم المراقبة والمحاسبة وتزرع فضائل القيم والحكامة العادلة
.وتبث الأمل في النفوس، وأنتم أهل لذلك يا مولاي

.اجتهدت كثيرا في وضع تصوري الخاص بالحكم، لكن التجربة لم تكن موفقة، اقتصرت بعد ذلك على تصور من سبقني وبذلت قصارى جهدي من أجل تطبيق العدل والمساواة بين الناس
.أعترف بوجود ضغوطات داخلية وخارجية تحول دون تحقيق ما أراه دائما صائبا

أشاطرك الرأي، سيدي. لكل عصر حكمه وعلينا تهيئة الصبي وأقرانه من أجل إعدادهم لبناء صيغة الحكم التي تناسب ظروفهم وأهدافهم ،لا يعقل أن يدبر المستقبل بفكر الأجداد والأسلاف. لكن سيدي، لست الوحيد المسؤول عن إدارة شؤون الناس. هناك منتخبين ونواب، وأرى أن اختيارات الناس كانت غير موفقة في من يمثلهم. هم كذلك يتحملون كفلا من
.المسؤولية

.يتحملون وزر من المسؤولية عند تملكهم القدرة على الاختيار الصحيح. وهو الشيء الذي لم نفعله قط

.نتفانى في تحقيق ذلك، سيدي. ولك كل الشرعية التاريخية في الحكم

.الشرعية تنبعث من حب الناس والاستماتة في خدمتهم

.بكل تأكيد، سيدي

لا حجة لحاكم في جهل أحوال من تولى خدمتهم وتدبير شؤونهم إذ نراه تجاهلا مقصودا يزيغ بصاحبه عن ماهية توليته. أريد أن يكون القانون أقوى من كل الأفراد فعلا وتشريعا. كما
.يجب أن تستقر مشاكل الهامش في مركز القرار

تم نشر المقالة على رأي اليوم 02 يوليو 2023 أنقر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *