في رحاب رواية الخيميائي لباولو كويلو
December 18, 2023
لماذا رأي اليوم
لماذا رأي اليوم؟
December 25, 2023

رحلة تأمل في رواية في بلد الرجال لهشام مطر

رواية في بلد الرجال لهشام مطر

رواية في بلد الرجال لهشام مطر

في حضرة أعمال الكاتب هشام مطر يجد القارئ نفسه أسير عمل روائي بديع ينهل من كتابة السيرة الذاتية ويستحضر وقائع تاريخية بمعية أسلوب جميل متميز وكلمات قوية تنبعث منها الحيوية والحركة. غالبا ما نلمس تمازجا تنصهر فيه حرية الخيال مع دقة وصف الأحداث ومقاربة بعض عناصر الخصوصية العربية والخصوصية المحلية والإحالة على جمال
.الهندسة المعمارية

شخصية الكتاب

تمتلك رواية بلد الرجال شخصية مبنية على تصور روائي في وعاء السيرة الذاتية هدفه تأمل وقراءة أحداث من الماضي في محاولة من الكاتب الانفصال عنها بحثا عن قراءة نقدية بكل موضوعية وتجرد. في تراتبية فصول الكتاب، تتجاذب مميزات العمل الروائي بما يكتنزه من خيال وإبداع وسرد مع عناصر مفصلية من السيرة الذاتية. يبدو أن شخصية الرواية تنمو بتدرج حسب تصور بدوره في طور بناء الأفكار والترسيخ. كما تستأثر كل فقرة ببناء خاص يشتغل على أدق التفاصيل ويمنحها الاستقلالية عن باقي الفقرات لكن في تناسق عام يحفظ
.للعمل هويته وشخصيته
بخصوص اللغة، رغم قتامة الحقائق التي حاول الكاتب مقاربتها وقراءتها، فإن اللغة التي وظفت في نسج الأفكار وبناء المعاني تتسم بالجمال و يتخللها سحر خاص يشد القارئ ويدعوه
.إلى الانكباب على النص وسبر أغوار كنوز محتوياته

براءة الطفل

تلتقي براءة الطفل بحركية السؤال المستمر وقوة الملاحظة والنظر الثاقب والطبع الحاد والنزوع نحو التمرد. يمثل الطفل سليمان طفولة تئن تحت وطأة ما تراه حولها من معاناة وأوجاع، طفولة اكتسبت، غصبا، وعي الراشدين قبل الأوان. يتمسك سليمان بنعمة الحب الصادق رغم تمرده ويجد في الخيال سلاحا للهروب من قسوة الماضي وقتامة الحاضر والتطلع
.نحو المستقبل

علاقة مركبة مع الأب

بكل تأكيد، يكن سليمان حبا عميقا لوالده و يسكنه توق شديد نحو قضاء وقت أطول معه وممارسة أنشطة عديدة عوض الاقتصار على الذهاب معا إلى المسجد يوم الجمعة. يتعطش سليمان إلى تأسيس علاقة أكثر حيوية صارت في حكم الخيال البعيد عن التحقق. فحضور الأب في البيت يعد غيابا بسبب انشغاله بالقراءة أو اجتماعه مع أصدقائه، لكن عند غيابه عن
.البيت يبقى حضوره قويا في ذاكرة سليمان ومسيطرا على أفكاره

نموذج لمعاناة مواطن اختار الممانعة والمقاومة

هي معاناة يتقاسمها كل أعضاء أسرته ويعيشون تفاصيلها لحظة بلحظة حيث الهلع المستمر والخوف من المضايقة والملاحقة والاعتقال. ظاهريا يبدو وكأنه خيار الانتحار بالسير عكس التيار لكن في العمق هو خيارصناعة بصيص من الأمل بالتمسك بممانعة الخنوع والركوع ورفض خيار السير إلى جانب الحائط أو مغادرة البلد. هم رجال وجدوا هويتهم في مواجهة
.الاستبداد وبطرق سلمية تنهل من الوطنية وتنوير الآخرين والتمسك بأمل إحداث التغيير

سلطة البنيات الفكرية والذهنية القائمة

في ظلال مجتمع ذكوري صرف، تتمرد الفتاة نجوى (الأم) على المجتمع وتذهب إلى المقهى رفقة صديقتها وفتيان من نفس العمر، يراها أخوها المتنور والمستقر في أمريكا ويشي بها
.إلى العائلة التي تهرول نحو تزويجها درءا للعار، فتنقلب حياتها رأسا على عقب ويظل يوم زواجها هو اليوم الأسود في حياتها

مما لا مرية فيه، قامت البنيات الذهنية والفكرية باختطاف الحياة والإرادة من الفتاة (أم سليمان بعد فترة الإنجاب) فوجدت نفسها زوجة في سن الرابعة عشرة بقرار لم تحظى فيه حتى بحق إبداء الرأي، ثم بعد ذلك أما، بانتقال سريع اختزل وجودها البيولوجي والزمني والنفسي وحرمها تجربة الانتقال الطبيعي من المراهقة إلى سن الرشد ووئدت طموحاتها وأحلامها
.وحرمت حق بناء تصور الحياة التي تريدها لنفسها

انتقلت إلى حضرة مؤسسة أسرة نمطية كمعظم الأسر، حيث يغيب ذاك التمثل التجسيدي للالتحام القوي بين الأفراد. دون شك، يتواجد الحب والود والتضحية، لكن في حضور تباعد بين الأفراد حيث يقود كل واحد حياته الشخصية بمنأى عن الآخرين، ينسلخ عنهم بهمومه وقلقه وأفكاره التي غالبا لا تفهم. ظلت الفتاة البريئة إذن حبيسة الشعور بالأسر ولو في بيتها. هي أسيرة الزمان (الماضي) والمكان (بيت الزوجية) بموجب زواج بمثابة عقوبة مؤبد. لم تجد من يحتضن أوجاعها ولو بالاستماع ففعلت ذلك في حضرة الابن الصغير بعدما ضاقت بها
.السبل وتكالبت عليها الأزمات النفسية في مكابدة الوحدة والفراغ ونار اختطاف الذات

من تناقضات المجتمع الذكوري، أن تظل الأم هي المسؤول الوحيد عن تربية الأبناء، هي من يلام في حالة فسادهم أو وقوع أي انحراف أو إقدام على سوء سلوك معين، فيما ينال الأب الإطراء والمديح على حسن التربية والصلاح ويظل السلطة التي تحتكر جميع الصلاحيات والقرارات دون نقاش تتحمل الزوجة تبعاتها رغم عدم مشاركته نفس القناعات والموافقة عليها. يسترسل الزوج في القيام بدوره حسب ما تمليه أدبيات الثقافة الشائعة من سلوكيات وليس حسب قناعاته الشخصية وتظل علاقته مع الأبناء مضطربة تفتقر التفاعل المباشر
.النقي الخالص والصرف

واقع الاستبداد الرهيب

يستقر الاستبداد في تفاصيل عيش الناس ويسيطر على الحالة الذهنية والنفسية ويرهق اللاشعور ويتعمق بتعطش المستبد إلى المزيد من الإخضاع والسيطرة على البلاد والعباد ويغدو الإله المعبود حيث تقدس غرائزه ورغباته وتبقى كرامة المواطن في حكم اللامفكر فيه. لا يألو جهدا في تثبيت صناعة الاستبداد من خلال: صناعة الطاعة والإخضاع وترسيخها في النفوس باستهداف جميع الأعمار والفئات (بث تنفيذ حكم الإعدام في حق المعارضين على الهواء وكدا مجالس الاستنطاق)، الصناعة السيميائية من خلال قلب المفاهيم (الخيانة،
.الثورة، الوطنية) وتشويه الادراك الفردي والوعي الجماعي، تهم الخيانة الجاهزة لكل من سولت له نفسه انتقاد النظام أو معارضته

الصمت

في فضيلة الصمت دروس وعبر، تكتنفه قوة وطاقة جبارة إذا تم توظيفها في الوقت المناسب إذ يبدي ما يبطنه الإنسان من سخط ورفض وتمرد واستفزاز للعدو وفن تجاهله. فيه إمساك
.عن البوح بما لا يجدي ولا ينفع وعبور للمشاكل وتجنب سوء الفهم ودعوة لحسن الاستماع والفهم

سلطة الجغرافيا

لا يكفي الغوص في ذهنية ونفسية الناس من أجل فهم نوعية السلوك وردود الفعل لديهم بل تستأثر الجغرافيا بدور مفصلي في استيعاب أفضل لنمط العيش السائد. يتحكم الطقس وتقلباته في مزاج الناس وطباعهم وأحاسيسهم بالضيق أو الانشراح، في تشكيل عادات الناس وتحديد نوعية أنشطتهم، إذ، مثلا، بفعل الحر ينحو معظم الناس إلى البقاء في المنزل
.والإقبال على القيلولة بعد الغذاء هروبا من الحر وما يخلفه من تراخ وكسل وإحباط ويحد بذلك من النشاط البشري وحدته

تحولات النفس البشرية

يقدم العمل على إجراء حفريات في بعض تفاصيل النفس البشرية وما يكتنفها من غموض ويستقر في أعماقها من صراعات داخلية لا متناهية تجعل رحلة البحث عن الذات واكتشاف
.هويتها رحلة طويلة في غاية التعقيد. تحيل كل شخصية في الرواية على نفسية مركبة تحتاج التفكيك والتشريح من أجل قراءة أفضل لسلوكها

ثمة تجاذب في الأحاسيس وتقلبات عصية على الفهم، مثل الانتقال السريع من الإحساس بالفخر إلى الاحساس بالعار، من الإحساس بالشفقة على الذات إلى كراهيتها، من الإطراء إلى
.التوبيخ، من الإحساس بالضياع إلى الإحساس بالثقة في النفس ووضوح الرؤية

تم نشر المقالة على رأي اليوم 10 غشت 2023 أنقر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *