استقرت الشمس في كبد السماء في سيطرة تامة على المشهد، لا يتجرأ أي مخلوق على مواجهة سطوتها وتجلي شجاعتها ووضح حضورها. اكتست السماء اللون الأزرق مرسلة الأمل والتفاؤل في النفوس مستفزة جمال الأرواح، واستوت السحب البيضاء القليلة متناثرة ومتباعدة في وقار تام لسلطة الشمس وزرقة السماء.
في ثنايا هذا المشهد الطبيعي، وفي نقطة من كوكب الأرض، اختار كمال الجلوس تحت شجرة طالبا الظل والراحة النفسية في عالم يعج بالتناقضات والصراعات والأوهام. أكيد أنها نقطة صغيرة جدا من الأرض، تتلاشى أمام ملكوت الكون، لكنها بحمولة ثقيلة بالنسبة لكائن بشري ضعيف في ربوعها يجد الانتماء البيولوجي والتاريخي والنفسي، كيف لا وهي أرض الأجداد والأسلاف ونقطة ارتكاز لمن تاه عن الطريق وافتقد الرؤية.
إذا كانت الطبيعة تحيل على الهدوء والسكينة، فالسيد كمال يتمثل تناقض المعطى حيث يختطفه القلق والضغط والارتياب. ظل عقله عاجزا على مسايرة منحى الطبيعة والتناغم مع لغتها البديعة وجمالها الرباني. استلقى كمال على غصن شجرة لعله ينال شيئا من بعض ثباتها وشموخها وثقتها خصوصا وأنه خسر معركة المد والجزر مع تقلبات الحياة التي ألقت به على الساحل بعدما تقاذفته أمواجها العاتية ولم ينل إلا التعب والضياع.
كان الرجل متدبرا منفتحا على ما تلتقطه عيناه من عناصر المشهد غارقا في حقيقة جمالية تناسق الألوان مع هندسة جميع عناصر الطبيعة دون البحث عن الاحتكار أو التميز أو إثارة الانتباه مادام كل عنصر يحظى بتميزه الشخصي ويساهم في التميز الجماعي. لا يسعى عنصرا واحدا نحو الواجهة مادام النسق الجماعي برمته في الواجهة. في ذهن الرجل تتدفق عدة أفكار و خواطر تتدافع وتتراكم نحو بناء بعض التساؤلات:
“ما بال قوم يلهثون نحو الشهرة وإثارة الانتباه والإنفاق كل ما هو نفيس من أجل الظفر بها. لو يعلمون حقا حقيقتها وما تصادره من حقوق ونعم لطلبوا الليل سرمدا وأعرضوا عن النهار. ظننت نفسي ساعيا نحو المجد، مجسدا للقدوة التي يحلم بها كل شخص، فإذا بي ضحية أوهام وهلوسات نسجتها عنكبوت الضلال والضياع سكنت في بيتها بلا دعوة أو ترحاب. فقدت إنسانيتي بغرائزها الطبيعية الخالصة وابتعد عني الكثير من الأصدقاء، بعدما طلبت التطبيع مع كل ماهو غير طبيعي وصار اللامعقول معقولا ومقبولا ومبررا. انسلخت حياتي عن الحياة وتلاشت في العدم. إذا كانت قوة الحضور في الغياب ففي حضوري مطلق الغياب وأنا نجم الجماهير المطلوب وده عند معظم الناس لكن في جلباب المشخصاتي الوسيم والأنيق. في سكان هذه القرية أجد البساطة وأدرك أنها فن الحياة لا يعيشه إلا فلاسفة أصحاب ألباب و برهان. وجدوا العلا في تفاصيل الحياة وبساطة الأشياء.”
تم نشر المقالة على رأي اليوم 04 يونيو 2024 أنقر