من النافل القول إنّه في غياب الإبداع الأدبي يشيعُ البؤس والسأم والقحط وتسطو النمطية على نمطِ العيش وتضيق الصدور وتستفردُ الغيوم بالنفوس وتجف الأرواح. فمعظمنا يعي الوظيفة المفصلية للأدب، ويُقبل على إنتاجاته وإبداعاته من أجل الظفر بحسناته والنهل من كنوزه وعيون معرفته وحكمه إلى درجةِ الانخراط في نقدِ بعض الأعمال ومناقشة أفكارها وفسح آفاق تطوّرها وتنقلها بين الناس.
في خضم تدافع الأفكار وتراكمها، تطفو إلى السطح مسألة إقدام البعض على الخوضِ في شرعية التقنين الأخلاقي للإنتاج الأدبي من أجل حماية هُويّة المادة الأدبية ووظيفتها النبيلة أولا، ودرء انبعاث المفاسد عن المتلقي في المقام الثاني. ماذا عن ماهية هذا التصوّر وعن تبعات تحقّقه؟ أم أنّ الحرية ملازمة للإبداع الأدبي لا يستقيم إلّا في حضورها؟
بادئ ذي بدء، لا بأس من التوقف عند بعض وظائف الإبداع الأدبي باعتبار ما يطاولها من نسيان، وما دامت حسناتها غير مادية وغير حسّية في زمنِ طغيان واستفحال سلطة المادة والإقبال بشراهةٍ على الاستهلاك.
نميل إلى الاعتقاد أنّه في كنه الإبداع الأدبي، ضمنيًا، تستقر مخاطبة القيم الإنسانية البناءة والرقي بالذوق وأدبيات الجمال وبناء النضج الفردي وتهذيب السلوك الشخصي وبناء وعي جماعي رصين واستدامة عملية التثقيف العام. حقيقة، نحن بصدد حصن منيع يقي الشعوب من توغّل وتسيّد النمطية والتفاهة والشعبوية والتسطيح والاستعباد. فضلًا عن ذلك، في رحابِ الأدب، تُعالج القضايا الإنسانية الصرفة وتخاطب هموم الناس وتُقدّم التجارب الشخصية والجماعية وتكتشف الجوانب المظلمة للشعوب ويُسمع صوت المظلوم المعدوم ويُفضح الاستبداد وسلوكيات المصادرة والاستحواذ.
يكتسي الإبداع الأدبي إذاً حساسيةً مفرطة تستدعي استحضار الحذر والتدبّر العميق في التعاطي والتعامل، حيث لا ينفصل العمل الأدبي عن العمق الاجتماعي والثقافي والبنيات الفكرية والنفسية، ما يحيل إلى ضرورة التريّث في أدواتِ النقل والتلّقي على حدٍّ سواء. من هنا نُقدم على الخوض في التساؤل التالي: هل يمكن للمبدع الخوض في جميع المواضيع، بما فيها التابوهات، في مجتمعٍ لم يرتق بعد إلى مجتمع المعرفة؟ أم أنّ الأمر يتطلّب التدرّج والتريّث مواكبة لواقع النضج القائم؟
على الضفة الأولى من الطرحين، ثمّة من يدعو إلى الانخراط في مسارٍ من الصدمات من أجل مصارحة المجتمع بحقيقة أوهامه ومسلّماته من أجل إيقاظ العقول وخلخلة البنيات الفكرية التقليدية الجامدة وإعادة بناء المفاهيم والتصوّرات والرقي بالوعي الجماعي. ربّما تستند هذه المقاربة إلى مبدأ الحرية والطابع الثوري للتغيير (الدعوة المحمدية مثالاً) ورفع الوصاية والحجر على العقول وبعض التجارب التنموية الغربية.
في المقابل، وعلى الضفة الأخرى، هناك من يميل إلى ضرورة توخي الحذر والتأني في مخاطبةِ ذهنيّةِ ونفسيّةِ المتلقي باعتبار هشاشة البنيات الفكرية القائمة التي لا تحتمل وقع الصدمات، وما قد يصدر عنها من غير المتوقّع من ردود الأفعال، وتنحو بذلك نحو التشدّد والتزمت والرفض.
من زاويةٍ أخرى، وعلى مستوى أخلاقي صرف، هناك من يلح على وجوب حماية العمل الأدبي من القبح والتدنّي والابتذال والبذاءة عبر الدعوة إلى عدم استعارة الكلمات والعبارات النابية والإيحاءات الجنسية رغم استناد المبدع والدفع بطرح ضرورة نقل الواقع بشفافيةٍ وإسقاط تفاصيله ودعوة المجتمع إلى مواجهة جانبه المظلم بكلِّ شجاعة. لكن، معظمنا يعرف تفاصيل الواقع المعيش، ويجد في الأدب ملجأ ومأوى ضدّ كلّ ما هو رديء وغير مقبول، لذلك ألا تفي عملية التلميح والإحالة بالغرض، وبكلِّ لباقة تحترم ذكاء القارئ وتدعوه إلى إعمال العقل والخيال؟
في الواقع، ترتقي المادة الأدبية عندما تلتمس الموضوعية والعمق والتجرّد من جميع الاعتبارات الأيديولوجية والعقائدية، وتترفع عن المصالح السياسية والنعرات العنصرية، وتنخرط في مخاطبة البعد الإنساني الصرف.
ندعو القارئ الكريم إلى الانخراطِ في التدبّر في ثنايا المقاربتين من أجل بناء رأيه وإغناء النقاش ومشاركته مع الجميع والإسهام في التأسيس للبنات مجتمع المعرفة.
تم نشر المقالة على العربي الجديد 18 يوليو 2024 أنقر