هناك من يتعامل مع التفاهة لكونها الوضع الطبيعي من التطوّر التاريخي لمنطقة معينة، وأنّ وجودها مرتبط بحضور عناصر معينة من قبيل التخلف والتراجع، فيما هناك من يراها
.صنيعة، أريد بها الإجهاز على الوعي الجماعي ونشر السفه والجهل ومحاربة التنوير والفكر من أجل استفراد نخبة صغيرة بخيرات البلاد وصناعة القرار
ربما محاولة الحسم بين الطرحين، هو بمثابة الحسم في مسألة مَنْ الأسبق في الوجود: البيضة أم الدجاجة؟ لذلك فمن الأفضل والأنجع البحث في سبل الانخراط في الممانعة
.والمقاومة، ما دامت التفاهة أمراً واقعاً يفرض نفسه
حقيقة، يبدو أنّ التسليم بالتعايش مع واقع التفاهة المستشري هو تطبيع مع منحاها الجارف واستسلام له، لذلك لا بديل من الممانعة من خلال الإقدام على بذل مجهود، فردي جبار
.ومستمر، دون ترقب أو انتظار ما يبذله الآخرون أو يقدمون عليه من محاولات، وضرورة الانكباب على الذات ومحاسبتها من أجل تحصينها وتقوية مناعتها
أكيد هناك ثمن يجب أداؤه، هناك معاناة وتضحية باعتبار اختيار العزلة والانزواء الاختياري والشعور المستمر بالقلق من احتمال السقوط في أحضان كلّ ما هو تافه وبذيء واستهلاك مزمن للمجهود الذهني وتهديد للمعطى النفسي وتقليص حدود بيئة التعامل مع العالم الخارجي وحتمية التعاطي معه على مضض. لكن ما دام البديل غائباً، فلا مناص من الخوض في
.التجربة للنجاة وتحصين الذات من السقوط
في الواقع، تستقر فكرة مقاومة التفاهة في خلق بيئة الممانعة. إذا كانت التفاهة تقتات من السطحية والتفاصيل الجانبية، وجب السعي نحو المنحى المعاكس والأصعب، ألا وهو البحث عن العمق من خلال بناء نسق تفكير رصين أساسه الحسّ النقدي والابتعاد عن الاختزال والجزم والتسليم باليقينيات والانجراف مع تيار الأحكام المسبقة الجاهزة. ثمّة حاجة ماسّة إلى إجراء القطيعة مع إفرازات التفاهة من خلال البحث المستمر عن اكتساب المعرفة من مصادرها الطبيعية (أمهات الكتب مثلاً)، مقاومة المتداول الشائع (الفكر، اللغة، الميولات العامة)
.تقصي كلّ ما هو جميل والسعي نحو تحسين الذوق، تدبّر نوعية القيم التي ننخرط في تنشيطها، عدم الهرولة نحو السهل الجاهز دون الاكتراث بالنوعية والجوهر
ترقى تجربة مقاومة التفاهة إلى مرتبة الجهاد، إذ تدعو الذات بكلّ عناصرها الحسية والمادية إلى الانخراط في مسلسل مستمر من الحذر واليقظة والاستقصاء والتحفيز الذاتي في براثن
.بيئة تنحو نحو التيار المعاكس، وتدعو إلى هدم كلّ ما هو جميل ومصادرته
تم نشر المقالة على العربي الجديد يوم 30 نوفمبر 2022 أنقر