Self- reconciliation
July 4, 2022
التداوي بالكتابة
October 22, 2022

في رحاب رواية شرق المتوسط لعبد الرحمان منيف

في حضرة الكاتب المبدع عبد الرحمان منيف يستحضر الذهن وبقوة أعمال كبيرة خالدة تتميز بالعمق و تكتنف من البعد المعرفي ما يمنحها التميز والتفرد والإشعاع. من إسهاماته المتميزة التي أغنت الإنتاجات الإبداعية العربية نركز على رواية “شرق المتوسط” احدى تحف و روائع الأدب السياسي والتي تترك وقعا خاصا في نفسية القارئ وترقى الى رمزية
.اختبار صريح ليقظة الضمائر لما تقوم به من حفريات في قتامة الأوضاع وانحسار الأفق و سطوة جبروت الظلم
من المؤكد أن ثقل نوعية العمل ينبعث من ثقل ذخيرة الكاتب الباحث في عناصر الثقافة والبيئة العربية ومفاصلها الذهنية و النفسية والسوسيولوجية ويستحق دون شك الدراسة
.والتدقيق والتمعن باعتبار راهنية العمل وقيمته الرمزية والمعنوية

العنوان

ثمة اعراض عن تحديد المكان والنزوع نحو التعميم في حضور عناصر مشتركة داخل الرقعة الجغرافية العربية من خلال التاريخ المشترك، تقارب نوعية الأزمات، تقاسم بعض
.المعطيات النفسية والذهنية ، استرسال نفس تصورات التدبير، وسلطة نفس البنيات الثقافية والفكرية
آثر الكاتب إذن إجراء إحالة على الشاطئ الشرقي – دون تحديد المكان- حيث تنشط المؤامرات والدسائس منذ زمن سحيق وتعلو سلطة التصحر والمسخ والمعاناة التي تتقاسمها جميع الكائنات الحية وليس البشر فقط، وتتم مصادرة إرادة التغيير وطموح التطلع مقابل مأسسة التعايش مع الذل والخضوع. فالكل إذن معني بموضوع السجن السياسي وما يخفيه من حقائق
.وخفايا تستحق التعرية

نوعية اللغة الموظفة

تتميز لغة رواية شرق المتوسط بالقوة والعمق والاكتناز من خلال توظيف الكاتب لكلمات ترتعش لها الضمائر وتنفذ إلى عمق الوجدان وتستهدف البعد الإنساني في الكائن البشري وتدعوه إلى الانكباب على التفكير في معاناة الآخرين واحتضان قضيتهم لأنها قضية مشتركة. مما لاشك فيه أن الرواية غنية بالعبارات والكلمات القوية والعنيفة أحيانا اخترنا منها على
:سبيل المثال لا الحصر ما يلي
الظلمة الكثيفة، السكون الأخرق، الانهيار، ابتسامة الحزن، الجيفة، جسارة العيون، بلاد السراديب، الزحف نحو الخلف، رفض الحضارة بل ومحاربتها؛ السجن يا أنيسة في داخل الإنسان، أتمنى ألا أحمل سجني أينما ذهبت؛ سوف ننام طويلا، الموت والنوم متشابهان، لا فرق بينهما الا ان الاول طويل والآخر قصير، ألا ننهض لنعيش فترة أطول؟

ذهنيا ونفسيا

تمثل نفسية وذهنية شخصية رجب عينة لواقع معظم دول المنطقة العربية حيث يعلو الانكسار وتسود الخيبات ووأد حق الأمل والتطلع. كيف لبيئة ثقافتها الهدم وروح تدبيرها المصادرة
.والاحتكار وسلطة ماضيها تحجب ضياء شمس مستقبلها أن تحظى ببذور الانبعاث والتحرك؟ كل شيء جميل في حكم الوئيد قبل ولادته

صراع التناقضات

:تكتنف الرواية ثنائيات متناقضة متعددة نركز منها على
شتان ما بين من يضحي من أجل قيم الفضيلة والكرامة ويدعو الى نشاط القيم الإنسانية النبيلة داخل مجموعة انتمائه ويهب نفسه من أجل ارتقائها وبين من يستسلم لسلطة غرائزه –
البدائية وأنانيته الجارفة ويسعى في الأرض طغيانا وفسادا ويسخر مقومات المجموعة في خدمة نزواته الآنية الوضيعة. فالانتماء الأول يخلد لحضوره بشرف واعتزاز ينهل منه
.الافاضل والفاضلات، فيما يحظى الانتماء الثاني بالاندثار والاستبراء ولعنة الأجيال المتعاقبة –
.يمكن للكتابة أن تتحول من سلاح ممانعة ومقاومة الى أداة عمالة لتضييع الحق وإحقاق الباطل والسيطرة على العقول والاجهاز على إدراكها –
.صراع الماضي المرير القوي بحمولته النفسية والذهنية وبنياته الثقافية والفكرية مع مستقبل يترقب فرصة البزوغ –
.في خضم المقاومة والبسالة والتمسك بحق الحياة ينتاب النفس أحيانا الحنين الى النهاية و الموت والخلاص من عذاب رؤية ومعاينة عذاب الآخرين –
.يرى السجان في توقيع السجين اعترافا ضمنيا و تنازلا بالخلاص والفرج فيما يراه السجين بمثابة توقيع صك النهاية وتحول مسار الصمود إلى خيانة –

حساسية الرأسمال الرمزي

ينحو المستبد نحو مصادرة الرأسمال الرمزي للبلد ككل ويستميت في تجريد الناس من عناصره لاستدامة سطوته وهيمنته. يقوم السجان بتسخير جميع الوسائل المادية من أجل الإجهاز
.على صمود المعارض السجين والنيل من رمزية صموده، لا يقيم وقارا للحد الأدنى من الأخلاق والمعاملة الانسانية بل يفتقر الى سقف أدنى من قيم التعامل الإنساني
فالسجين يرى أن البوح بالكلمة الأولى تمثل الحلقة الأولى من سلسلة الاعترافات كما هو الشأن بالنسبة للتنازل الأول، إذ يجسد بداية مسلسل التنازلات وكدا الخيانة حتى ينسلخ الإنسان
.عن كرامته واحترامه لذاته و انتمائه الطبيعي من خلال رأسماله الرمزي والمعنوي
,كما تتخلل العمل الروائي دعوة ضمنية إلى الكتابة وما تحمله في طياتها من أبعاد رمزية ومعنوية، إذ هي دعوة إلى التوثيق والإدلاء بالشهادة، دعوة إلى المقاومة وعدم الاستسلام
.دعوة الى التعبير عن قسط من العذاب الذي يكتنف النفس، إذ لكل فرد نصيبه من المعاناة والنكال بشتى أنواعه

عذاب السجن

تتناسل خلايا العذاب وتفرز أنواعا عدة من الآلام والأوجاع والتنكيل. يتسيد العذاب النفسي قائمة أجناس العذاب وما يخلفه من أمراض مزمنة، ثم يأتي بعد ذلك عذاب الوحدة، عذاب
،تسارع وتصارع الأفكار، عذاب فقد الأهل والأحبة، عذاب الانتظار، عذاب الظلم والجور وتلفيق التهم، عذاب الخوف من السقوط في معرة الخيانة، عذاب تعدد الخصوم: السجان
.الهواجس الذاتية، المجهول، المرض، وعذاب الحنين الى الانسانية

الأمل يعلو ولا يعلى عليه

كيفما ازداد التضييق ونشطت عملية مصادرة الحقوق واشتدت قتامة الظلم يبقى الأمل حيا ولو في جزيئات بسيطة في تفاصيل الحياة تدعو لعدم الخنوع والاستسلام، إذ تتقوى قوة الصمود بأسلحة العناد ويباسة الرأس وتحمل التعذيب بشتى أنواعه حيث يكتشف المظلوم ما تكتنز دواخله من طاقات وقوى خفية ترقى الى شموخ الجبال وكبرياء النسور، لذلك فرغم
.قساوة وشراسة التعذيب تبقى قوة الإنسان في التحمل أقوى من الصخر ويبقى الأمل قائما الى اخر رمق

في قلب الاستبداد

يفرض النظام المستبد شرعيته غصبا ويؤسس لها من خلال تجفيف منابع التنوع والتعدد ومصادرة الطموح والمستقبل والتأسيس لعمليات التدجين والتنميط والازدراء بانسانية الانسان معبدا الطريق نحو الاندحار الثقافي و القحط السياسي المفلس. على مستوى التدبير، ينحو المستبد نحو بناء دعائم نظام بوليسي محض تدور في فلكه جميع المؤسسات الرسمية، يتمتع بالشطط في استعمال السلطة ومحاربة النقد و تجريم عملية التفكير والاجهاز على المعارضة والرأي المخالف و إجبار المعارضين على ترك العمل السياسي لإفراغ الساحة والاستفراد بكل التفاصيل. نفسيا، يعيش في هلع مستمر وفقدان للثقة في النفس ويبدي ردود فعل عنيفة وصارمة ناجمة عن إدراكه لافتقاد الشرعية والانفصام عن الشعب والانسلاخ عن هويته والخوف الأبدي من أداء الدين وتحصيل مازرع من ظلم و جور وعذاب. لا مناص إذن من الاستثمار في بناء بيئة اليأس والأفكار السوداء والهم والسأم وسجن الانتظار من أجل إنهاك
.الناس واستهلاك قواهم والحيلولة دون مقاومتهم لمن تسبب في صناعة مآسيهم وتمادى في استدامتها
.يجسد نزوع الحاكم نحو تبني الاستبداد حقيقة غياب العقل والتعقل وافتقاده الحكمة والروية و خضوعه لسطوة غرائز التملك والسيطرة وانفلات نزواته واضطراباته النفسية

قوة لغة الصمت

تكمن قوة الصمت في الترفع واستفزاز الظالم والإجهاز عليه والتيئيس وبث الرعب في دواخله لأنه مسكون بالخوف والجبن والنذالة. من النافل القول أن الصمت سلاح يعبر عن جسارة
.الإرادة و يستفز عقد النقص عند الجلاد ويفتك بساديته واضطراباته المكبوتة ويصيبه بالارباك والهلع

تساؤلات في قلب الرواية

ثمة تساؤلات تدعو الى التدبر واعمال العقل وربما تبوح بما لم يتم الخوض فيه –
هل ينال السجن من انسانية الانسان ؟ –
متى يتنازل السجين عن مبادئه ومواقفه وينال منه الفتور ؟ –
هل النزوع نحو تعذيب النفس (التدخين عند أم رجب) أرحم من عذاب الخارج؟ –
لمن يضحي رجب؟ وهل يحس الآخرون بعذابه وقيمة تضحيته؟ –
هل يمكن التصالح مع الأيام القادمة في حضور جارف للماضي المرير؟ –
هل للحياة من معنى بعد مصادرة الخصوصية واقتحام أدق التفاصيل الشخصية؟ –
هل يعتبر السكوت أو الحياد ضمنيا مشاركة في الجريمة؟ –

تم نشر المقالة على رأي اليوم يوم 22 يونيو 2021 أنقر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *