!ما أحوجنا إلى ثقافة التداوي بالكتب

تخوض مجتمعات المعرفة تجربة ما بعد الحداثة بترسانة من القيم المكتسبة واستثمارها في المعطى البشري وتقديسها للمعرفة واحترامها لسلطة العلم. عندما نتحدث عن المعرفة نعي ضمنيا وجاهة قيمة الكتب وما تكتنزه من أرصدة العلوم المتراكمة ومنابع الحكمة و أسرار الماضي وحقائق
.الحاضر وتوقعات المستقبل
لن نخوض في سرد حسنات القراءة والمطالعة والعلاقة الحميمية مع الكتب، بل سنحاول التركيز من خلال هذه المحاولة على الخوض في ثقافة
.تجربة التداوي بالكتب التي تحتضنها المجتمعات المتقدمة و تفتقدها المجتمعات المتأخرة كما هو الحال في دول المنطقة العربية
من النافل القول أن التداوي بالكتب ممارسة ضاربة في الزمن بأدبياتها الخاصة وجذورها المترسخة منذ قرون في بعض الحضارات القديمة كما هو
.الشأن في الحضارة الفرعونية، إذ كانت تعرف المكتبات منذ قرون بمكان علاج الروح
نتحدث هنا عن ممارسة أو طقوس توظف فعل القراءة في تحقيق أهداف علاجية صرفة تخص أساسا الاضطرابات النفسية والذهنية والسيكولوجية
.ويشرف عليها أهل الاختصاص بتعاون مقنن مع المستشفيات والخزانات ومصالح الرعاية الاجتماعية
حقيقة، تقوم تجربة التداوي بالكتب على نوعية إسهام الكتب في التعافي والنمو وبناء التوازن النفسي والذهني لشخصية الإنسان وتقوم بتقنين العملية وتصنيف مراحلها بطريقة علمية تعتمد على تشخيص الأعراض وتقديم الوصفة العلاجية والمواكبة. قد تجري الأمور بمعية الأخصائيين أو في كنف حلقات قراءة جماعية تضم عددا محدودا من الأشخاص أو بتجربة شخصية عصامية. يهم محتوى العمل عوالم الرواية والشعر والخيال والسيرة
.الذاتية
يتم اختيار الكتب حسب الحالة النفسية، متطلبات الظرفية، الحالة الذهنية للمعني بالأمر ونوعية الأزمات التي يمر بها. هناك مثلا كتب من صنف المساعدة الذاتية توظف في علاج القلق والغضب ولها تأثير طويل الأمد في التخفيف من الاحباط، كتب الخيال تنحو بالقارئ الى ابداء التعاطف والتفهم نحو الآخرين، قراءة الشعر توظف في التعبير عن المشاعر الذاتية و تمكن من الخروج من الوحدة والانفتاح على العالم الخارجي والآخرين وتستعمل في دور العجزة، في قراءة السيرة الذاتية يكتشف القارئ أنه ليس بالوحيد الذي يعيش أزمة من الأزمات بل يتقاسمها معه الكثير وهناك فعلا من تجاوزها فيستعيد الثقة في النفس و تتغير النظرة الى الذات والعالم الخارجي وكيفية التعامل مع الناس، الإقبال على الروايات يجسد نوعا من الانسلاخ عن الحزن الذاتي والمعاناة الشخصية والانصهار في حياة الآخرين مما يمنح قسطا من التخفيف والانفراج للذات البشرية.
كما تستند عملية الاختيار على الفئة العمرية، باعتبار البناء السيكولوجي للشخصية وتدرج عملية بناء الإدراك واكتساب النضج. في الواقع، قد تحب كتابا في العشرينات وتجده مؤثرا لكن قد تصنف نفس الكتاب بالعادي في الثلاثينات. لذلك عملية اختيار الكتب نفسها تندرج في مسار بناء يبتدئ
.بالتلقائي وينتهي ربما عند الصرامة في تحديد معايير الاختيار
عموما توظف الكتب في التعامل مع اضطرابات الشخصية النرجسية، علاج الاكتئاب، القلق، الوحدة والحزن، التدمر بعد فقدان أحد الأحبة، إدمان على المخدرات، التخفيف من وقع الصدمات، ترسبات فشل تجربة زواج، محاولة اكتشاف الذات، فقدان الثقة في النفس واحترام الذات. كما
.توظف في علاج الاضطرابات النفسية و تقويم الحالة السيكولوجية للسجناء والجنود العائدين من الحرب
:تهدف التجربة إلى
.تقديم المساعدة في تدبير عملية اختيار الكتب باعتبار العدد الفلكي للكتب المتاحة وقصر عمر الإنسان –
.تحقيق توازن روحي –
.تقوية الصحة الذهنية للأشخاص –
.التحكم في ضبط المشاعر –
.كيفية التعامل مع الأزمات وتدبير الضغط والقلق –
.تدبير العلاقات الاجتماعية –
.تقويم التصورات الذهنية وفهم الواقع بطريقة عقلانية أفضل –
.كيفية امتصاص الصدمات –
.القدرة على تقديم الحلول وابداع البدائل –
.تقوية الانفتاح على فكر الآخرين والترحيب بالاختلاف وإقصاء الأنا –
ليس غريبا اذن أن يتمتع القارئ المواظب بهدوء النفس وتوازن الشخصية وقوة الحالة الذهنية والقدرة على النوم و الحفاظ على مستويات ضغط
.منخفضة والثقة في القدرات الذاتية
ترقى ثقافة التداوي بالكتب إلى مستوى الحاجة الملحة و تندرج في منظومة قيمية تقدس المعرفة ومصادرها وتسخر لها مقومات مادية معتبرة. بينما تظل الكتب في معظم دول المنطقة العربية مصدر أرق ومتاعب و انعكاس لسلوك التمرد والمشاكسة والاستفزاز لواقع يقدس الجهل ويغوص في كنف إرث الماضي البعيد، فكيف لثقافة التداوي بالكتب أن تنبعث؟

تم نشر المقالة على رأي اليوم يوم 19 يونيو 2021 أنقر