.مما لا شك فيه أن خيار الاعتكاف في غار حراء يكتسي خصوصية استثنائية، لأنه ينطلق من سراج خاتم الأنبياء، لكن التجربة تخاطب الألباب، وتحيي الضمائر، وتدعو إلى الاعتبار
بادئ ذي بدء، تحيل التجربة إلى ضرورة التدبر والتفكر وإعمال العقل، لمحاولة فهم أسرار الكون وما يجري من أحداث، للاقتراب من الحقيقة، وتمنح العقل سلطة استثنائية ما دام
.مسؤولاً عن عمليات الفهم والتأويل والتدبر وإنتاج المعرفة التي تحدد الفارق بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والساكن والمتحرك، والفاعل والمفعول به
تتوقّف عملية إحداث التغيير على نهج منطق القطيعة مع الجمود، وعدم الاقتصار على ما هو متاح من موروث ثقافي وفكري أو الارتهان لسلطة المخيال الاجتماعي السائد. ثمة دعوة
.إلى الإبداع والخلق، وتقديم الإضافة، وتوظيف القدرات المتاحة وتطويرها
من نافل القول إن من العبث مراكمة الأخطاء نفسها باتباع أنماط التفكير وأساليب العمل نفسها، والامتناع عن التكيف مع مستجدات العصر. من هنا، تتضح حساسية عملية مساءلة الذات، بالإقبال على النقد الذاتي البناء، وتحقيق الفصل بين مجالات اشتغال الوجدان والعقلانية، لتصحيح المناهج وتكييفها وإعادة بناء أنساقها. كما تتطلب عملية مساءلة الذات تبنّي
.الشّجاعة والنزاهة، لمواجهة نواقص الذات والانكباب على ترميمها
تتأسَّس رحلة البحث عن الحقيقة واكتساب المعرفة على تطوير أنماط تفكير شخصية وحسّ نقدي خاصّ، من أجل بناء وعي شخصي، وامتلاك الإدراك لتحقيق الاستقلالية، والاقتراب
.من الموضوعية، والتعامل مع رأي الأغلبية بعقلانية التأييد والتفنيد، تبعاً لنوعية الموضوع وخصوصيته
ربما هناك دعوة صريحة لتفادي إغراء هوس المعرفة السريعة ادخاراً للوقت والجهد، مقابل تبني سبل بحث مؤسسة على الصبر والكد، والبحث المستمر، والتحقق والابتعاد عن الجزم
.والاختزال والتسرع، من أجل شيوع ثقافة عالمة متينة، في إطار مجتمع معرفة متحرر من الخرافات والأساطير والأوهام
يبقى وزن سلطة الجانب الروحيّ هو المحدّد الأساسيّ لقيمة الإنسان، كذخيرة بشرية قادرة على رفع التحديات، إذا تمكّن صاحبها من كبح جماح غرائزه البدائية، بوعي مسبق لهيجانها
.وعنف مخرجات عملية اشتغالها، فبالتحكم بالغرائز تسمو الطموحات والتحديات، وترقى الاهتمامات والمخاوف على حدّ سواء
يُزرع الإيمان في القلب، لكن نموه يحتاج إلى عملية ترسيخ وتثبيت بالعلم وإعمال العقل، للتقرّب إلى الخالق، وتحقيق عملية فهم أفضل لدينه، وتحسين نوعية التديّن العميق المترفّع
.عن مستوى الشّكليات والعبادات الخالية من روح الحكم والمقاصد، من أجل بناء سلوك فرديّ قويم يرقى بالأخلاق إلى واقع معيش
تم نشر المقالة على الميادين 16 غشت 2020 أنقر