الوطن العربي بين الاستبداد والاستعباد
February 10, 2020
المغرب: عن مفصلية وظيفة الطبقة الوسطى في تنمية البلاد ورفاهية العباد
February 17, 2020

سلطة الكلمات

.كثيرة هي الكلمات التي تتدفق من الأفواه، لا تعد ولا تحصى، يذهب معظمها جفاء وتبقى منها صاحبات الخوارق التي تقود نحو المعجزات وتصنع الفرق وتكسر القيود وتتحدى الحدود

قد يبدو عند الوهلة الأولى أن الكلمات مجرد أشياء بسيطة عابرة تنمحي مباشرة بعد البوح بها، لكن مع التمعن والتدبر يتبين أنها بمثابة كائنات حية من ولادة ونمو و ترعرع تحيى وتتقوى وربما تمر بنفس مراحل التطور البيولوجي عند باقي الكائنات الحية. تندثر جميع الأشياء الملموسة وتبقى الكلمات و تترسخ وتكتسب الأبدية، إذ كلما مر الزمان تزداد قوة وراهنية لا تتلاشى. كيف يمكن مقاربة سر هذه القوة ؟

تحظى الكلمات بثقل خاص من خلال ضخامة الحمولة التي تحمل في طياتها، حمولة لا تؤطر في قالب معين ، تتحدى جميع الأشكال و الحدود والآفاق، لها سحر في القلوب وأثر على
.العقول ووقع في النفوس

نتعامل مع الكلمات كأسماء مجردة تنعدم فيها الطبيعة الفيزيائية المادية لكنها تبقى قوية وذات جبروت لا يقاوم ولا يقارع ويتحدى جميع القوانين والقوى الفيزيائية. ربما تحتويها روح
.أبدية تنأى بها عن العالم الغير المرئي ونقيضه العالم التجريبي المحسوس وتصنع لها عالما خاصا بين مختلف العوالم

لا تعترف الكلمات بالأبواب الموصدة ولا بالرقابة والمصادرة، إذ تتمتع بقدرة اختراق وتوغل خفية غير حسية بفضل مرونتها، يتحدد أثرها حسب نوعية التوظيف، لذلك فهي تستعمل في مخاطبة العقل وتدعوه إلى التدبر والتفكر وسبر أعماق العمق والتطلع إلى آفاق التحدي مثلما توظف في استمالة الفؤاد وتحفيز الذخائر الذاتية على المضي قدما في درب المقاومة
.والإنجاز والتعبئة لكل ما هو رفيع وخليق بالتضحية . على النقيض من ذلك، تستعمل كذلك في التفرقة والهدم وإثارة الغرائز المادية و النعرات القاتلة وإحباط العزائم والهمم

كم من الشخصيات غادرتنا إلى دار البقاء لكنها نسجت كلمات جعلت أقوالها راسخة وملازمة لمكارم الأفعال والقيم ومحفزة لجميع الأجيال في مكابدة تقلبات الزمان و ضنك العيش والسير على منوال الأحرار الأقحاح. كثيرة هي الخطب والأقوال التي تحفظها الأجيال عن ظهر قلب وتستحضرها في الظاهر والباطن وتمررها بدورها لمن هو قادم من الخلف

تفقد الكلمات سلطتها وحظوتها عندما تجرد من أدوارها النبيلة و تستعار من طرف غرائز الطمع والسيطرة والأنانية حيث يتم الإجهاز عليها في خطابات الرتابة والرداءة والتطرف
.وغسل الأدمغة والشعبوية ولغة الخشب والتحايل

يسمو الإنسان بطريقة انتقائه لكلماته واختيار مواضع وأزمنة التوظيف ووضعها في أنساق الجمال والارتقاء والتنوير والارتواء لان الكل يتكلم ويدلي بدلوه لكن القلة فقط هي المؤثرة
.بفضل كلماتها التي تحيل على ذوق صاحبها ورصانة مقامه

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *