عن هوس المعرفة السريعة
November 19, 2019
محاولة حفر في الدوافع الحقيقية للاحتجاجات الشعبية في إيران
December 4, 2019

في قلب الخلاف المصري الإثيوبي حول تشييد سد النهضة

يعود الخلاف المصري الإثيوبي حول مياه النيل إلى الواجهة بعد عزم إثيوبيا تشييد سد النهضة ونهج سياسة الأمر الواقع وتحتد عملية شد الحبل بين البلدين من خلال المفاوضات
.الدبلوماسية وتبادل التصريحات النارية والتهديدية أحيانا
يتخذ الخلاف القديم الجديد أبعادا استراتيجية وسياسية تتفاعل مع مستجدات الأحداث بالمنطقة ككل وتتلاشى إمكانيات الوصول إلى توافق، على الأقل في المدى القريب، يرضي طموحات
.وحاجيات البلدين

هل يتمحور الخلاف حقا فقط حول أمور تقنية أم هناك اعتبارات استراتيجية أعمق؟ وما هي أوجه التباين في حزمة مصالح كل بلد على حدة؟ وهل يمكن الحديث عن حلول ممكنة؟

حساسية الخلاف

:يكتسي الخلاف حساسية قصوى لدى البلدين لعدة اعتبارات مفصلية، أهمها

تاريخية الخلاف: يجد الصراع جذوره في زمن بعيد (مشاكل وصراعات منذ آلاف السنين) وينبعث كلما تضاربت مصالح البلدين رغم عدم اشتراكهما في الحدود الجغرافية، وكل اتفاق
.محتمل يبقى ملزما لمستقبل الأجيال القادمة
ترقى قضية مياه النيل إلى مرتبة ركن من أركان الأمن القومي المصري، إذ أن المس بحصة مصر من المياه تمس نمط العيش المواطن المصري. حسب تصريحات الجانب الرسمي المصري، ويؤدي تدني تدفق المياه الواصلة إلى مصر بنسبة 2 في المئة، إلى خسارة 200 ألف فدان من الأراضي المزروعة،  والفدان الواحد يؤمن غذاء عائلة يبلغ متوسطها
.5 أشخاص
.القضية سيادية بالنسبة لإثيوبيا لأنها تقع في قلب الطموحات التنموية للبلد ويروج لها على أنها قضية حياة أو موت

نقاط الخلاف الظاهرية

باعتبار أن إثيوبيا هي أحد بلدان المنبع ومصر أحد بلدان المصب من الطبيعي أن يتركز الخلاف بين البلدين أساسا على كل ما يؤثر على تدفق المياه، لذلك هناك تباين في خطط وفترات ومدة وسرعة  ملء خزانات السد بالمياه، إذ تدعو مصر إلى مِلء بُحيرة سد النهضة في غُضون سبع سنوات فيما تطالب إثيوبيا بثلاث سنوات فقط. حسب الطرح المصري إذا تم ملء
.خزان السد خلال 3 سنوات، فإن مستوى النهر سيتأثر، لكن إذا تم ذلك في 7 سنوات، فلن يتأثر مستوى المياه بدرجة مهولة
من ناحية تقنية، تطالب مصر إثيوبيا بالكشف عن الدراسات الفنية للمشروع إذ هناك احتمالات  وقوع كارثة بيئية في حالة إنشاء السد قد يؤدي الى إغراق الخرطوم والاجهاز على
.مناطق قروية بمصر، لكن إثيوبيا تتحفظ وترفض الاستجابة للطلب المصري وعدة منظمات دولية غير حكومية، وترفض حتى  اللجوء الى التحكيم الدولي

 تدعو إثيوبيا من جانبها إلى إلغاء الاعتماد على اتفاقيات أبرمت في عهد الاستعمار (اتفاقية 1929 و 1959) وسحب الشرعية عنها لأنها تعطي كامل الامتيازات لمصر والسودان بما
.فيها الاعتراض على كل مشروع يضر أو يقلص من حصتهما في المياه

تضارب المصالح وتباين الطموحات

بخصوص الجانب الإثيوبي، يطمح البلد إلى تحقيق المزيد من التنمية واللحاق بكوكبة الدول الصاعدة ولم لا إحياء حلم الإمبراطورية الإثيوبية. حقيقة، يتموقع  مشروع سد النهضة في قلب النموذج التنموي للبلد لما يعد به من خيرات محفزة ومحورية في تنمية البلد، إذ يفترض أن يمثل سد النهضة الكبير أضخم محطة لتوليد الكهرباء في إفريقيا بإنتاج أكثر من
.6000  ميغاواط من الطاقة الكهربائية لدعم النمو الاقتصادي الإثيوبي وحركة التصنيع
من المعلوم أن  إثيوبيا تعاني حاليا من خصاص في إنتاج الكهرباء حيث أن نصف ساكنة البلد لا تلج خدمات الشبكة الكهربائية والطاقة المتوقع توليدها قادرة على إشباع حاجيات البلد
.بأكمله مع إنتاج فائض للتصدير
هناك تعبئة شاملة في البلد من أجل إكمال المشروع حيث اختارت الحكومة خيار التمويل الذاتي المحلي بدعوة جميع  الإثيوبيين إلى المساهمة في المشروع الكبير، وقبول خفض رواتبهم والاقتطاع منها لتمويل السد وتشجيع الإثيوبيين بالخارج على المساهمة والاستثمار في بناء السد عبر تقديم القروض.

تطمح إثيوبيا إذن إلى تغيير المعادلة الخاصة بتدبير مياه النيل وتسابق الزمن باستغلال الوضع السياسي لمصر حاليا بعد أحداث ما سمي بالربيع العربي وفرض سياسة الأمر الواقع،
.وتعتبر القضية سيادية ولا مناص من المضي قدما نحو تحقيق طموحاتها

بخصوص الطرف المصري، يعتمد الفراعنة على النيل في سد حاجياتهم من المياه إذ يغطي نسبة 85 % مما يحتاجه البلد،  لذلك الديبلوماسية المصرية تلح على مسألة المحافظة على
.تدفق قار لمياه النهر
يزيد عدد سُكّان مصر عن 100 مليون نسمة وتحتاج الساكنة  إلى حصصٍ مياه أكبر، وليس العكس، باعتبار الزيادة السكانيّة المرتفعة و تبقى 95 % من أراضي البلد صحراء قاحلة، ومياه النيل بالنّسبة إليها، ومُواطنيها، مسألة حياة أو موت. كما ان البلد استثمر كثيرا في النهر بما في ذلك القطاع السياحي ولا يقبل بالمس بمقومات نمط عيش المواطن المصري. ويجب أن نتذكر جيدا أن سد أسوان مثلا يزود مصر بأكبر حصة من الكهرباء وأن عملية تقليص التدفق  تؤثر كذلك على حركة التنقل على النيل بسبب انخفاض مستوى الماء وتلحق
.الضرر بالزراعة التي تعتمد على مياه النهر في السقي

.عموما تبدي مصر ارتيابا بخصوص نوايا إثيوبيا في التحكم في تدفق المياه والسيطرة على عملية تدبير مياه النيل

البعد الاستراتيجي للصراع

من المؤكد أن الخلاف يتخذ أبعادا استراتيجية كبرى ويحيل على نشاط قوى أخرى بالمنطقة تبحث عن استثمار الوضع لتحقيق مصالح اقتصادية وجيوسياسية معينة حيث تتقاطع الأطماع الأمريكية والروسية والصينية وتوجه التصورات حسب ما يخدم أجندتها الخارجية بالمنطقة. هناك ربما اهتماما غير مسبوق بالقارة الإفريقية لما تعد به من آفاق تنموية في
.السنوات القادمة

.من جهة أخرى يشكل الخلاف مثالا ملموسا ربما لنوعية الحروب المستقبلية ألا وهي حروب المياه خصوصا مع تناقص كميات المياه المتوفرة وميلها إلى الندرة

هل هناك مؤامرة ضد مصر؟

يمكن قراءة بعض المعطيات والأحداث كوجه من أوجه عملية تطويق البلد. كما نعلم يبقى البلد ،جغرافيا، مطوقا حيث مصدر المياه الوحيد لديه ينبع من  دولة أخرى وموقعه
.الاستراتيجي يثير أطماع القوى العظمى للسيطرة عليه والتحكم بقراراته

حقيقة تقع مصر في قلب العالم العربي وتبقى دائما مستهدفة باعتبار حساسية مكانتها ودورها الريادي في المنطقة العربية ودورها المفصلي في ثبات الأمن القومي العربي. لذلك 
.استعمل النهر، تاريخيا، كأداة في يد الغزاة والأعداء لتطويق مصر وتركيع إرادتها 

ماذا عن اختيار أثيوبيا لتوقيت (مارس  2011) الشروع في البناء موازاة مع أحداث ما سمي بالربيع العربي؟
ماذا عن الدور الإسرائيلي في التعجيل بعملية البناء وتقديم المساعدات المالية والفنية للطرف الإثيوبي؟ أليس في ذلك تهديدا صريحا لأمن أرض الكنانة؟

هل من حلول؟

: يميل البعض إلى الجزم بالمواجهة العسكرية، غير أن الحل العسكري يبقى مستبعدا لاعتبارات عديدة 
الحل العسكري لا يخدم مسار التنمية بإثيوبيا
لا يتوافق مع انكباب مصر على ترميم البيت الداخلي  لكشف الغمة الاقتصادية والاجتماعية
تفضل الإدارة الأمريكية المفاوضات الدبلوماسية لتركيزها على الشق الاقتصادي في سياستها  الخارجية وعدم استعدادها للدخول في نزاعات غير محمودة العواقب خصوصا وأن
.الجماعات الإرهابية غيرت الوجهة إلى القارة الإفريقية وتسعى إلى جعلها مشتل أنشطتها الإرهابية
.هناك معطى جديد يتمثل في الوضعية السياسية الجديدة بالسودان بعد إسقاط حكم البشير
   
.لم يبقى إذن هناك من خيار سوى المفاوضات الدبلوماسية لكن مع عدم الاستجابة إلى النداءات الشعبوية الغير عقلانية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *