TURN THE TABLES
September 24, 2018
SHOULD
September 30, 2018

في خضم متاهة الانتقال من الكائن الإنساني إلى الكائن الاقتصادي

يبدو أن الرأسمالية أتت على الأخضر واليابس و أفحمت كل ما يقف في زحفها وهيمنتها على العالم. لا يقتصر الأمر على الهيمنة الاقتصادية فحسب من خلال غزو الأسواق وفتح الحدود لكنه يمتد إلى الهيمنة الثقافية والسياسية وحتى النفسية، إذ سيطر الفكر الرأسمالي على العقول وشكل عملية الإدراك ووجه الأداء السياسي لصناع القرار واسقط مفاهيم الكائن الإنساني والجنسية والحمائية والدولة القطرية واستبدلها بالكائن الاقتصادي والمواطن العالمي والسوق الحر والتكتلات الجهوية

من النافل القول أن الفكر الرأسمالي يقوم على مخاطبة الغرائز وما يحرك النفس البشرية من طموح وحب التملك وشجع أنانية ومنفعة. يقدم نفسه بمظهر اللين الرؤوف المغري المنقذ للبشرية وقاطرة ازدهارها ورفاهيتها وسراج انبعاث آفاقها. غير أن التاريخ اثبت عنفه ووحشيته وشراسة زحفه وغطرسته، لا يقيم وقارا للأعراف ولا المحارم ولا يحترم الخصوصية والحرية الشخصية. يرتدي جلباب الكريم المعطاء لكنه حقيقة يسلب كل شيء ويجرد الذات من حقيقة وجودها

منذ انبعاث الفكر الرأسمالي، لقي مقاومة من طرف مجموعة من الأيديولوجيات والمذاهب التي قدمت مساءلة نقدية لما يعتريه من عيوب و أخطار، غير أنه أثبت قابلية ومرونة لترويض كل أنواع الممانعة والمقاومة التي تحاول الوقوف أمام زحفه. غدا فكرا عالميا بفعل قدرته على تسخير العسكري والسيميائي والنفسي والمعلوماتي والإعلامي والديني، لا يعترف بالتعددية ويسعى إلى احتكار الثروات المادية واللامادية ووضع منابعها بأيدي قوى عظمى ليست إلا شركات متعددة الجنسيات تتقاسم العالم وتتنافس بشراسة على خيراته. كما أنه أسقط سيادة الدول وجرد الحكومات من الحكم وجعلها آليات لتنفيذ برامجه وبسط سطوته على الجميع بمعية مؤسسات دولية تسهر على إنزال تعليماته

من وجهة نظر إنسانية صرفة، أصبحنا نعيش تحت وطأة الضغط وتسارع وثيرة الأحداث خصوصا في مرحلة الانتقال من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات حيث أضحت المعلومة معيارا لتمييز الغني عن الفقير(دول الشمال ودول الجنوب) واتجهت الدول إلى التركيز على المادة الرمادية من خلال الاستثمار في العنصر البشري لخلق الثروة. غير أن هذا الإنسان أصبح محجما في وضع الكائن الاقتصادي بعدما جرده الفكر الرأسمالي من إنسانيته وأحاسيسه تحت قناع مجموعة من المبادئ المفصلية كالعقلنة المفرطة للأحاسيس والسعي وراء المنفعة والمصلحة الشخصية وتوظيف غريزتي الأنانية والفردانية كآليات في المنافسة لنيل المكاسب وبلوغ الأهداف. وجد بذلك الإنسان نفسه مسلوبا حق الاختيار بعدما صار إدراكه خاضعا للوصاية سلفا وحدد هامش اختياراته في مجالات متاحة محددة مسبقا من قبل الممارسة الرأسمالية. مداخلات كهاته لن تنتج إلا مخرجات مجتمع نمطي رديء هزيل تسوده الفردانية القاتلة وتنعدم فيه الروح الجماعية التضامنية تسوده الفوارق والتباينات وينظر فيه إلى الفرد في حدود المنتج والمستهلك

من جهة أخرى وباتباع مقاربة أكثر شمولية ، تمكن الفكر الرأسمالي من تحديد المركز الذي يملك العقل والرأسمال والشغل والهامش الذي يمثل الأسواق والمادة الخام واليد العاملة الرخيصة والمستهلك وكل محاولة مس بهذه المعادلة يتم كبحها فورا وتشويه نواتها الصلبة وبترها من الوجود، من هنا حقيقة إسقاط الأنظمة وتدبير الانقلابات وبلقنة دول وإرجاع أخرى إلى الوراء لعقود

مما لا شك فيه أن الفكر الرأسمالي جرد الإنسان من إنسانيته وأخلاقه وزج به في جحر سلسلة مفرغة أعادته من جديد إلى واقع العبودية باحثا عن أمل الحرية، فهل من مخرج؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *