يحيل فن نسج الرواية على كنوز معرفية قيمة ترقى بالإدراك الفردي والجماعي وتعين على المضي قدما في رحلة البحث عن الحقائق وغور أسبار العمق وممانعة توغل التفاهة
.والقبح. غير أن هذا الصنف الأدبي لا يحظى بالاهتمام المستحق في المنطقة العربية والجدية في التعامل و تبخس قيمته ويقزم مقامه ولا يتعدى هامش الترف في سلم الأولويات
حقيقة، عندما يخوض المرء في تجربة قراءة رواية معينة، فإنه يبحر في تجربة إنسانية من خلالها ينصهر ضمنيا في نسق عوالم نفسية وذهنية وفكرية لفاعل بشري أدلى بشهادته و رأيه وخواطره عن أحداث معينة في حدود جغرافية وحقبة زمنية محددة، حيث يقبل القارئ على إجراء حفريات في البنيات النفسية والذهنية والثقافية المحددة زمانا ومكانا ويقترب أكثر
.من منابع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بغية الفهم والتفكيك وهدم الهدم
مما لا مرية فيه أن قارئ الرواية يغوص في الجانب الخفي للشعوب وما لم تدونه معظم المواد التاريخية الرسمية أو لم تتطرق له من العمق المطلوب ولم تتناوله بأمانة الموضوعية والتجرد وينخرط في عملية شخصية نحو البحث والتمحيص والتوثيق في الوقائع والأحداث من أجل بناء تصورات فكرية شخصية، إذ بولوج عالم الرواية ينخرط القارئ في سجال فكري خالص مع الكاتب بحثا عن الأفق الأوسع والحرية بين أضلاع ما ينسج من كلمات ويسرد من أحداث ويرسل من معاني ومقاصد. تتمثل الرواية إذن في تجسيد للواقع ينبعث من قلب ما يخترق الذات من مؤثرات العالم الخارجي، العقل الباطن، الخيال الاجتماعي، المكبوت النفسي، التصورات الذهنية والمخاوف، وتتجسد شخصيات الرواية هذه المؤثرات وتقدمها في قالب يميل إلى الحقيقة أكثر منه إلى الخيال. من المؤكد أن مع ذكر أحد أسماء كبار الروائيين يتبادر إلى الذهن تصور شخصي أو جماعي عن حقبة تاريخية معينة بحمولة ثقافية
.ثقيلة وأحداث مترسخة بتفاصيلها وخصوصياتها
في الرواية، يتخلص الكاتب من جبن مواجهة الذات أمام العالم الخارجي ويقبل على مواجهتها دون وسيط أو شامت أو مترصد وينغمس في رحاب وعائها العريض في مخاطبة الجانب المظلم من شخصيته ومن مجتمعه ويسترسل في عمليات العرض والتصنيف والتشريح والطرح بعيدا عن جميع أنواع الرقابة أو التحفظ، كما يكتسب الجراة في الخوض في الطابوهات
.واللامفكر فيه ويبوح بمضامين المسكوت عنه ويبرئ الذمة ما دام قد تخلص من جميع القيود والمضايقات
تستحق تجربة قراءة الرواية قدرا وافرا من الجدية والتركيز والانصهار لما يناله القارئ من وابل من الحسنات والمكافآت على مستويات عدة. نحاول التركيز على ما نستوعبه ونعيه ونشاركه مع القراء لصعوبة الحصر والإلمام العميق والشامل. تكتنف الرواية إذن قيمة مضافة تستهدف المستوى الفكري للقارئ، حيث تساعد الذات على اكتساب استقلالية الفكر
.وتطوير الحس النقدي والتخلص من سلطة اليقينيات والحتميات وتدعوها إلى التريث والتدبر والارتقاء بالتفكير إلى نمط عيش وسلوك
على المستوى النفسي والذهني والسيكولوجي، تساهم تجربة قراءة الرواية في تهذيب الغرائز وتقوية الذكاء الذهني والعاطفي، وإتقان قراءة أفكار الآخرين، وتطوير الحدس وفن اللباقة والارتقاء بالذوق، و تدفع بالقارئ إلى الإقبال على مخاطبة ومواجهة عيوب الشخصية، وتعينه على الحد من قوة ميولات نزعات النرجسية والأنانية، وتدعوه إلى المحاسبة الإيجابية للذات والإقلاع عن اللوم القاتل والتخلص من الأفكار السلبية وعلاج بعض الاضطرابات النفسية باعتبار تعدد الشخصيات والبنيات الذهنية والنفسية والفكرية التي تتحرك وتنشط في الرواية الواحدة. فضلا عن ذلك، تقوم الرواية بتعبيد الطريق نحو اكتساب مرونة وأسلوب قوي في التعامل مع المجهول و المعقد والمركب من الأحداث والسلوكيات وتقوي
.قابلية امتصاص الصدمات وتذويب عنصر المفاجأة فيما يصادفه القارئ من أحداث دون إهمال التجربة التي تكتسب من خيال حياة لم يحياها فعليا
تم نشر المقالة على رأي اليوم 21 ماي 2023 أنقر