،للهشاشة تجليّات أوضح من ضوءِ النهار، تتمدّد وتستشري وتأتي على الأخضر واليابس، ليسودَ القحطُ والجفاف. فهي تسودُ، حيث النزوع إلى تقديس الفرد الواحد، والفكر الواحد
.وشيوعِ الفقر، وسطوةِ الاحتكار وغياب الحركية والتعدّد والتجدّد المستمر
سنجانبُ الصواب إذا أقدمنا على اختزالِ أهدافها وأساليب تثبيتها في عناصر معيّنة لتشابك المعطيات الصعبة التفكيك والتناول، لكن مع ذلك يبدو أنّ أحد الأهداف المحورية من تعمّق الهشاشةِ، يتمثّل في الحفاظِ على امتيازات النخبة المحظوظة وركائز الوضع القائم. حقيقةً، إنّ من يحتكر صناعة القرار وموارد الثروة يتبع جميع السبل للحفاظ على معادلةِ الحكم القائمة ويحول دون المسّ بامتيازاته وقمع جميع دعوات إعادة توزيع الثروة أو الصلاحيات والإصلاح الحقيقي، ولا يألو جهدًا في استدامةِ الفجوة القائمة وتلميعِ الصورة بالطرق
.السيميائية وشراءِ ذمم السياسيين والنقابيين والمرتزقة المثقفة وإفراغِ جميع مؤسّسات الوساطة من المحتوى والأداء
:والغريب في الأمر أنّ أسباب استقرار الهشاشة تتحوّل إلى آلياتٍ عندما تتوافق مع أهواءِ الإرادة السياسية القائمة، فترقى إلى نموذجِ حكمٍ وتحكّمٍ، ومظاهر ذلك، تتجلّى في ما يلي
السيطرة على إدراك الناس: ولتحقيق ذلك، يجري تجنيد مرتزقةٍ من تجّارِ القلم من أجل تبريرِ هشاشةِ الواقع وإعطائه الشرعية والقبول. وهذا يتم، ذهنيًّا ونفسيًّا، للتحايل على إدراكِ المواطن البسيط وقلب المفاهيم لديه للحيلولة دون قيام أيّ تمرّد أو معارضة على الحكامة القائمة. يصير إذن الفقر قدرًا محتومًا وابتلاء من الرب، ولا يجري بتاتًا التعاطي معه باعتباره
.مخرجاتٍ لمدخلاتِ نظامٍ فاشلٍ في خلقِ الثروات وجائر في توزيعها
يجري تعبيد الطريق لشيوعِ الرداءةِ والتفاهةِ بالإجهازِ على النظام التربوي ومصادرِ عملية التثقيف العام وازدراء منظومةِ القيم، من خلال تسليطِ الضوء وتضخيمِ كلّ ما هو سطحي
.وتافه، وتقديمه للواجهة وتبغيض العمق والجوهر، ومحاربةِ الفكر، وتقييد نشاطه، وتفريغ كلّ ما هو معرفي وهادف من المضمونِ، وحصره في الشكلي الضيّق
حيثما اتجهت وارتحلت يظلّ الحاكم حاضرًا ثقيلًا على أنفاسِ الجميع لدرجة الصفاقة والاستغباء. وما دامت شرعيته مؤسّسة على أسسٍ واهيةٍ، تجدُّ جذورها في الدعمِ الخارجي، يبقى
.همّه الأوحد هو الحفاظ على الكرسي والخلود في نعيمه، ووجاهته بكلِّ السبل، وبمزيدٍ من التنازلات للخارج. فكلّ مقوّمات البلد تُسخّر في إشباعِ نزواته وأهواء محيطه الفاسد
يمنحُ التدخل الخارجي الشرعيةَ للحاكم، ويستبيحُ الأرزاق والأرواح كيفما يشاء. فهو من يحدّد الاتجاهات المحورية لسياسةِ البلد، ويظلّ الحاكم هنا مجرّد موظف في منظومةِ تراتبية
.الذل القائمة. هو استعمار عن بعد، يجد جنوده في الداخل قبل الخارج، ويختلف عن الاستعمارِ التقليدي فقط في الأساليب، غير أنّه أكثر حدّة وشراسة
تحظى المقاربة الأمنية بالتقديس لدى الحاكم، وتحتكر جميع صلاحيات الحفاظ على الأمن القومي الذي يُختزل في مقاربةِ الحفاظ على الأمن بمعيةِ وزارة الأمن التي تسطو على مقامِ بقيةِ الوزارات، وتصطفي بمعجزة إيجاد الحلول لجميع المشاكل باتباع السبل الأمنية الضيّقة والتدابير الإجرائية الآنية، وفقًا لمتطلبات اللحظة. غير أنّ التطويق والترويع الممنهج للحفاظ
.على هيبةِ الدولة يظل مخترقًا وهشًّا ما دام الأساس يقومُ على الأجهزةِ الأمنية والاستخبارية
يفتقدُ البلد لرؤيةٍ على المدى البعيد، وبطبيعةِ الحال يفتقرُ لمشروعِ عملٍ وأهدافٍ واقعية، إذ إنّ البلد بمؤسّساته الصورية، لا يمتلك حق تقرير مصيره، ويُراد له أن يستمر في الضياع في
.براثن سلسلةٍ مفرغةٍ من القرارات الإجرائية والتدابير الآنية من أجل تدبير إكراهات اللحظة
يُبدي نظام الهشاشة من القوّة ما لا يُبطن من الوهنِ والضعف، ويظلُّ مرتعًا للاختراق والإرهاب والتآكل والسقوط في أيّة لحظةٍ، بسبب تعدّد التناقضات الداخلية التي تستوطنه. وكثيرة هي الشعوب المستضعفة التي تئن تحت لهيبِ القهر والطغيان وضعف الحيلة في عالمٍ قانونه المنافسة الشرسة والتسابق نحو تنميطِ العقول وتغييب الضمائر ومصادرة منابع الثروات
.أينما وُجِدتْ
تم نشر المقالة على العربي الجديد 16 مايو 2024 أنقر