حقيقةً، عندما يخوض المنتخب الوطني، في إحدى دول المنطقة العربية، مباراة رسمية تُرفع الأقلام وتجف الصحف، ويقع الجمود وتستقر السكينة في الشوارع التي تخلو من الناس وتنعدم الحركة، وتتعطل المصالح الإدارية، وتُشحن النفوس بالطاقة الإيجابية في حالة الفوز أو بالطاقة السلبية والتذمر في حالة الإخفاق والهزيمة. وبموازاة ذلك، تستأثر هذه المباريات باهتمام الإعلام وتحظى بالتغطية المكثفة إلى درجة تقديمها في النشرات الإخبارية على رأس العناوين والمحاور، وتتكثّف عمليات الشحن والتعبئة إلى حدّ المبالغة والوقاحة والعنف. هل صارت كرة القدم أهم عناصر الشأن العام وأثقل الهموم لدى السواد الأعظم من الناس؟ هل المسألة طبيعية ومقبولة أم أنّها مخرجات مدخلات شاذة تستدعي الحذر والتريّث والمساءلة وإعادة تصحيح المسار؟
من زاوية أخرى، هناك من يرى في كرة القدم قطاعًا اقتصاديًّا قائمًا بذاته باعتبار ما يستقبله من الموارد المالية والبشرية، وما يخلقه من فرص الشغل، وما يحدثه من حركية اقتصادية تؤثر إيجابيًّا على الاستثمار والاستهلاك. ألا يستقيم الحديث هنا عن نشاط اقتصادي تحفيزي تكميلي يفتقد الاستقلالية وثوابت القطاع الاقتصادي القائم بذاته؟ من المؤكد أنّ المسألة
.تستحق التمحيص والتدقيق وضبط المفاهيم والتصوّرات
قد نتفهم حبّ اللعبة والانغماس في تفاصيلها بجنون، لكن هل من الحكمة تحوّلها إلى هوسٍ يصرف اهتمام الناس عن الأولويات ويقودهم إلى سلوكيات التشنّج والتعصّب والتنمّر وتفريغ نعرات الغل والحقد؟ نميل بشدّة إلى تصنيف الأمر في موضع غير المقبول، إذ كيف يمكن اختزال وشائج وروابط الأخوة والجوار بين أحضان مجريات لعبة لا تحتكم إلى المنطق؟
نميل إلى تفسير منحى تحوّل كرة القدم إلى هوس وأولوية أجدر بالاهتمام والمتابعة، من خلال مجموعة من العوامل المتداخلة والمركبة. بادئ ذي بدء، نركز على الجانبين الذهني والنفسي، حيث نعاين مجموعة من الاضطرابات والاختلالات التي تتجلّى أساسًا في الخلل في تحديد الأولويات، والفوضى التي تعم المفاهيم والتصوّرات، وتسيّد الأوهام في الوعي الفردي والجماعي على حدّ سواء. يُضاف إلى ذلك الانسياق وراء العاطفة وتعطيل العقل وافتقاد العقلانية والإحساس المتواصل باليأس والتذمر جرّاء تراكم الإخفاقات والخيبات، وفشل الحكامة القائمة في تحقيق المطامح الشعبية، والخوض في تجارب تنموية حقيقية، مما دفع بالناس، وربّما بدون إدراك، إلى خيار البحث عن تمثلات فرح وفخر تنفصل تمامًا عن حقيقة
.الشعور بهما، لكنها تعبّر عن التوق العميق إلى الإحساس باحترام الذات وقدرتها على تحقيق الإنجازات، وفرض الوجود، وصون الكرامة والكبرياء
أمام مرارة الواقع ونفاد الصبر والشجاعة على مواجهة التحديات الحقيقية والمشاكل، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، تغدو كرة القدم ذاك الإنجاز المتخيّل الذي يستحق التركيز وينأى بالأذهان عن التحديات والعوائق الحقيقية. كذلك، لا مناص من التذكير بهندسة توظيف اللعبة من طرف السياسي لصرف نظر الناس عن الأزمات وفشل التدبير وغياب
.الإنجازات، ومن أجل تمرير القرارات دون تشويش أو انتباه في ظلال الغفوة التي تُحدثها مباريات كرة القدم
من المؤسف أن تتحوّل هذه الرياضة الجميلة التي تُبطن من ذخائر القيم النبيلة والإنسانية الصرفة إلى أداة من أجل تشويه الإدراك العام، وضرب القيم من خلال تنشيط النزوع نحو
. الفهلوة والانتهازية والفردانية وإطاحة نموذج القدوة الحقيقية، وإثارة التشنّج والعدوانية والصراعات بين الأشقاء والجيران من الدول المنهكة أصلاً بالمشاكل البنيوية والتبعية للخارج
ومما لا شك فيه، أنّنا كشعوب في المنطقة العربية، ودون إنكار الخصوصية أو الميل نحو التعميم والاختزال، نتقاسم التاريخ، والانتماء الجغرافي والثقافة والحضارة، ونعاني من المشاكل نفسها من فقر وتخلّف وتبعيّة وبنيات ثقافية جامدة، واضطرابات نفسية لا تعدّ ولا تحصى، ولذا لا قبل لنا بمزيدٍ من النعرات التي تُحدث الشقاق، وتثير الحساسيات والعصبيات
.بجميع أنواعها
تبقى رياضة كرة القدم مادة تربوية وإعدادية وتقويمية وترفيهية تُرسل من الرسائل الجميلة، وتبدي من القيم الحميدة، ما يستحق التركيز عليها إنصافًا للعبة وللأطر المحترمة التي تشتغل في عالمها وتخدم البلد من رحم جماليتها، وتمنح الناس فسحة انفصام عن الضغوط ومتنفس في يومٍ مُثقلِ بالمسؤوليات والمهام. نرجو حقًّا أنّ تظل كرة القدم بريئة من كلّ ما
.يخدش جماليتها ورونق حضورها
تم نشر المقالة على العربي الجديد 5 فبراير 2024 أنقر